Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| |
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| موضوع: رد: حقيقة الصلب بين المسيحية والاسلام .. دراسة وثائقية مقارنة الأحد أبريل 01, 2012 5:48 am | |
|
هل صُلب المسيح حقاً?
بقلم فارس القيرواني المقدمة ليس الهدف من هذه الدراسة إضرام نار الشحناء بين المسيحيين والمسلمين في عالم موبوء بالبغضاء? والتفرقة? والتَّعصُّب? والعنصرية. إنما أردنا أن نعالج قضية هي في صُلب الخلاف بين المسيحية والإسلام على ضوء المعطيات التاريخيَّة? والدينية والمنطقية بأسلوب يتسم بالجديَّة والموضوعيَّة. ودأبنا في هذا كله خدمة الحقيقة من خلال مخاطبة العقل من ناحية? وتوثيق أواصر اليقين في قلوب المؤمنين من ناحية أخرى. فالصليب في المسيحيَّة هو قضية القضايا? وعلى الإيمان بفداء المسيح المصلوب يتوقف مصير الإنسان في أبديَّته المقبلة. هذا ما تنادي به المسيحيَّة. وهذا ما يؤمن به المسيحيون. أما الإسلام فإنه يتّخذ موقف الرفض المطلق من الصليب? ولا يرى فيه حاجة إلى خلاص الإنسان? اعتماداً على أن التوبة إن اقترنت برحمة الله تضحى كافية لتؤهل التائب? إن كانت تلك هي مشيئة الله? للدخول إلى جنّاته تعالى يتمتّع بما جاء به الوعد في القرآن. والفارق في هذين الموقفين هو كالفارق بين الشرق والغرب. إن المسيحي المؤمن يرى في الصليب وموت المسيح الكفاري الضمان الأكيد للحظوة بالحياة الأبدية. ذلك أن الله قد جسّد محبته ورحمته وعدالته على الصليب. فاليقين هنا مصدره وعد الله إذ قال المسيح:“فكل من يؤمن بي فله حياة أبدية” من غير استثناء. أي إن المؤمن المسيحي الأصيل يدرك يقيناً أنه إذا مات فله حياة أبدية. ولا مجال في هذا اليقين إلى عبارات: “إن شاء الله” أو “إن ذلك يتوقف على رحمته تعالى”. ولا يعني هذا أن في وسع المرء أن يرتكب المعاصي? ويجنح للشر? ثم يقول: “لقد ضمنت الحياة الأبدية لأن المسيح قد مات من أجلي ودفع ثمن ما تقدم وما تأخر من ذنبي”. إن في هذا القول لبهتاناً عظيماً? إذ على كل من ابتغى الحياة الأبدية أن يعيش على مستوى مطالب المسيح من القداسة ليكون إيمانه بفداء المسيح إيماناً عملياً. أما الخلاص في الإسلام فهو سعي متواصل لعل المؤمن يحظى فيه برضى ربه? فينعم بجنة الفردوس. هذا السعي يتطلب جهداً قلّما يحالف فيه التوفيق صاحبه. إن العمل في الإسلام ضروري للحصول على الثواب. بينما العمل في المسيحيّة هو من ثمار الإيمان وليس للحصول على الثَواب. فالحياة الأبدية في المسيحيّة قد تأمنت بفضل عملية الفداء المطلقة التي تشمل كل من يؤمن بالمسيح رباً وفادياً ومخلّصاً. هذا هو الشرط. وهو شرط لا مناص منه. ومتى تحقق شرط الإيمان الصادق المخلص يتولد الإثمار الطبيعي. فالزهرة من طبيعتها أن تملأ الفضاء بعبيرها العبق? وكذلك من شأن طبيعة المؤمن المسيحي الحقيقي أن ينتج ثمراً صالحاً حقيقيّاً ليس من أجل ثواب أو مكافأة? أي ليس من أجل الحصول على الحياة الأبدية التي باتت مضمونة مع تحقيق شرط الإيمان? إنما هي تعبير طبيعي عن الحياة الجديدة التي أصبح عليها المؤمن المسيحي. لهذا عمدنا في هذه الدراسة إلى الاستعانة بكل ما توافر لدينا من وثائق ومراجع معترف بها لإثبات حقيقة الصلب? وأنه حدث تاريخي وقع منذ ألفي عام تقريباً? وأن المصلوب كان حقاً هو المسيح وليس آخر? وأن أي ادّعاء يتعارض مع هذا الواقع هو ادّعاء باطل من أساسه يستنكره التاريخ ويتناقض مع الحقيقة. ورجاؤنا إلى الله أن يتحرر إخواننا المسلمون من التعصُّب في أثناء مطالعة هذا الكتيّب? وأن يضعوا ما ورد فيه على محك الحقيقة فلا تجرفهم العاطفة إلى إساءة الظنّ في مقولاته? كما أننا لا ندعوهم لموافقتنا إنما نأمل أن تولّد هذه الدراسة شيئاً من التوثيق للبحث عن الحقيقة? حتى لو كانت هذه الحقيقة تخالف ما نشأنا عليه من تربية دينيّة. فلو لم يبذل مؤسّس الإسلام كل جهد في البحث عن الله لبقي كل حياته مشركاً كبقية قومه وقبيلته. وهذا درس علينا أن نتلقّنه جميعاً إن كنا حقاً مخلصين في طلب الحق الإلهي. والله من وراء القصد
| |
|
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| موضوع: رد: حقيقة الصلب بين المسيحية والاسلام .. دراسة وثائقية مقارنة الأحد أبريل 01, 2012 6:01 am | |
|
الفصل الأول هل صُلب المسيح حقاً؟
إن عقيدة الفداء? أي موت المسيح على الصليب من أجل خلاص الجنس البشري? هي عقيدة جوهرية في صُلب الديانة المسيحيّة. فمبدأ الخلاص قائم في أصله على هذا العمل الفدائي? وهو عمل لم يخطط له البشر? أو يرسم معالمه الناس? إنما هو من صنع الله? وليس للإنسان أي فضل في ذلك. ولكن موت المسيح على الصليب وبالتالي قيامته في اليوم الثالث من بين الأموات? قضيّة اختلف عليها المسلمون والمسيحيّون منذ نشأة الإسلام? في مطلع القرن السابع الميلادي حتى عصرنا الحاضر. فالمسلمون ينكرون إنكاراً قاطعاً أن المسيح قد صُلب أو حتى مات موتاً طبيعياً (مع العلم أن لفيفاً من العلماء المسلمين يميلون إلى القول إن المسيح قد مات موتاً طبيعيّاً ثم رفعه الله إلى السماء). بينما يصرّ المسيحيّون عن قناعة لا شك فيها أن المسيح قد مات مصلوباً من أجل فداء الإنسان الخاطئ. إن المسلمين يستهدفون من إنكارهم صلب المسيح إنكار مبدأ الفداء بل حاجة الإنسان إلى مخلص. بينما يرى المسيحيّون أنه لا خلاص من غير سفك دم? أي من غير عمل الكفارة الذي اتخذ شكله النهائي والأبدي على الصليب في شخص المسيح. فالكتاب المقدس في إشارته إلى صلب المسيح يقول: ·“بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ” (الرسالة إلى العبرانيين 9: 22). وهو أمر يستنكره المسلمون أشدّ الاستنكار اعتقاداً منهم أنّ التوبة والأعمال الصالحة كافية لخلاص الإنسان من خطاياه? وأنّ الغفران يرتبط ارتباطاً وثيقاً برحمة الله وإرادته ولا علاقة له بعمل المسيح الفدائي على الصليب1 . كذلك لا يؤمن المسلمون بضرورة وجود وسيط بين الله والناس لأن الإنسان? كما يدّعون يولد بريئاً وأنّ ما يرتكبه من آثام هي أخطاء متولدة عن ضعف الطبيعة البشرية ونقصانها وليس بفعل الطبيعة الساقطة التي ورثها عن آدم. وأودُّ هنا أن أُحيل القارئ إلى كتيّب قيّم بعنوان: “طبيعة الإنسان الساقطة في الإسلام والمسيحية”2 عمد فيه المؤلف إلى تفنيد هذه الادعاءات تفنيداً جازماً مستعيناً بالمصادر الإسلامية والمسيحيّة على السّواء. ولن أحاول هنا أن أعرض بالتفصيل المطول إلى الأسباب القاطعة التي ولّدت قناعة لا يشوبها الشك في إيمان المسيحيين بموت المسيح على الصليب وقيامته في اليوم الثالث? إنما سأُلمح إليها بشيء من الإجمال لأن دراسة مسهبة لمثل هذه الأسباب تقتضي كتاباً وليس كتيّباً. (أ) أسباب منطقية يعتمد المسلمون في نفيهم الجازم لموت المسيح على آية واحدة واردة في سورة النساء 4: 157: · “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً”. وفي آية 158 يتابع: “بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً”. وبناءً على هذه الآية اليتيمة التي تنكر موت المسيح - علماً أن هذه الآية بالذات قابلة لتأويلات مختلفة? يجزم المسلمون أن عملية الصلب لم تحدث? وأن قصة موت المسيح وقيامته هي من اختراع المسيحيين الأوائل. وهنا لا بد لي أن أتوقف أمام الملاحظات المنطقية التالية: أولاً: لو كنت أيها القارئ قاضياً وعرضت عليك قضية مماثلة لقضية موت المسيح على الصليب مدعومة بالوثائق التاريخية التي تكتظُّ بنصوص المحاكمة والحوار الذي جرى ما بين المسيح وبيلاطس الحاكم الروماني? وكذلك نصوص الحوار الذي دار بين المسيح ورؤساء اليهود في مجلس السَّنهدريم? ثم عرضت عليك أقوال شهود العيان? وأسماؤهم? مع أسماء الذين حضروا المحاكمة? وتفاصيل الأحداث التي وقعت قبل عملية الصلب? وفي أثنائها والوقائع التي أعقبتها? وكلها مؤيدة بالشواهد التي لا تدع مجالاً للشك? ثم جاء شخص ما? بعد ما يزيد عن ستة قرون ممن لم يشهدوا حادثة الصلب? وبعبارة واحدة لا تسندها أية وثيقة تاريخية أو أثرية وادّعى أن موت المسيح على الصليب لم يحدث? وأن ما نقرأه في الأناجيل عن هذه القصّة من أوهام مسيحيي القرن الأول? فهل تقبل? كقاض عادل? هذا اللغو? يشير Werner Keller في كتابه “The Bible As History” إلى “أن تفاصيل المحاكمة وصدور الحكم والصلب (الواردة) في الأناجيل الأربعة قد تفحَّصها عدد من الباحثين بدقة علمية فتم التأكد من مصداقية وقائعها تاريخياً بكل حذافيرها. كما أن شهود الاتهام الرئيسيين ضد يسوع قد تعرّضوا للتحقيق بصورة غير مباشرة. كذلك فإن المكان الذي صدر منه الحكم قد كشفت عنه الحفريات الأثرية. إن الأحداث المختلفة في سياق المحاكمة يمكن التحقُّق منها من المصادر والبحوث الحديثة”3. قد يقول البعض إن الآية أعلاه هي وحي إلهي ولم تصدر عن محمد بالذات? ومن حيث أن مصدرها هو الله فلا يمكن أن يعتريها خلل أو باطل. إن صحّ هذا الكلام فعلى صاحب القول أن يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها وحي من الله? لأننا نجد أنفسنا هنا أمام حقيقتين صارختين? إحداهما أن بين أيدينا كتابين: القرآن والإنجيل. وكلاهما كما يقول أصحابهما من وحي الله. ولكن أحدهما يناقض الآخر في أهم العقائد الأساسية: فلا بد والحالة هذه أن يكون مصدر أحدهما مخالفاً لمصدر الآخر? أي ليس الله. ولا جدوى من القول بنظرية التحريف والتبديل التي يدعي المسلمون أنها قد أصابت الكتاب المقدس? لأن الدراسات الموضوعية - لا التي تقوم على التكهن والتخيل - التي أجراها العلماء المحدثون قد شهدت على صحة النص الإنجيلي. والحقيقة الثانية أن النص الإنجيلي تثبته الوثائق التاريخية والحفريات? بينما لا نجد دليلاً تاريخياً أو أثرياً يؤيد النص القرآني ولا سيما بما يختص بصلب المسيح. وهكذا عندما يكون النص الكتابي مثبتاً بالشواهد التاريخية والأثرية تكون الحقيقة في صالحه وليس في صالح ما يفتقر إلى هذه الشواهد. وكذلك فإن المسيحي يؤمن بأن كتابه موحى به من الله. لهذا فكل نص فيه هو إلهي? ولا سيما إن اقترن بحصيلة كبيرة من النبوءات السابقة التي تحققت بحرفيتها في شخص المسيح. وأمام مثل هذا الحشد من الأدلة يضحى على المعترض مسؤولية تفنيد هذه الوثائق بما هو أصح منها وأثبت? إن وجد لذلك سبيلاً. ثانياً: لو كان موت المسيح أسطورة من أساطير الأولين? فلماذا ضحَّى جميع حواريّي المسيح تقريباً? الذين شهد لهم القرآن بالصلاح والأمانة والتقوى? بحياتهم من أجل أسطورة? قد يضحّي الإنسان بحياته من أجل غرض نبيل أو اقتناعاً منه بصدق ما يؤمن به? أما أن يضحي بحياته من أجل أكذوبة أو أسطورة فهذا يتعذر حدوثه? ولا سيما إن صدر عن قوم صالحين كمثل حواريي المسيح. ثالثاً: كرز الحواريون? منذ موت المسيح وقيامته وحتى آخر لحظة من حياتهم? بإنجيل الخلاص. وكانت كرازتهم? ولا سيما في السنوات الأولى من خدمتهم? بين الأوساط اليهودية التي شهدت مأساة صلب المسيح? وعرفت بقيامته? ولم يجرؤ واحد من اليهود أو حتى من رؤساء الكهنة والفريسيين الذين تآمروا على المسيح أن ينكر على الحواريين حديثهم أو يتّهمهم بالكذب. فالحواريُّ بطرس يقف في أورشليم ولم يكن قد مضى على صعود المسيح إلى السماء إلا عشرة أيام? وعلى بُعد أمتار قليلة من مكان صَلْب المسيح? ويجابه اليهود بقوة وإصرار قائلاً لهم: · “وَلكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ... وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ? الَّذِي أَقَامَهُ اللّهُ مِنَ الأَمْوَاتِ? وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذلِكَ” (أعمال الرسل 3: 14 و15). وفي مكان آخر يقول الحواري بطرس في يوم الخمسين مخاطباً اليهود: · “هذَا (أي المسيح) أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللّهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ? وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ” (أعمال الرسل 2: 23). والحقيقة أن العهد الجديد مفعم بكثير من الشهادات المشابهة التي تؤكد على موت المسيح مصلوباً? وأن اليهود المعاصرين للحواريين هم الذين قتلوه. فلو كانت هذه الاتهامات باطلة لأنكرها اليهود إنكاراً كلياً? ولما ضحّى الحواريون بأنفسهم في سبيل أسطورة أو أكذوبة4 . رابعاً: ثم هناك أدلة منطقية أخرى لا يسع المرء أن يتجاهلها. ولعل أبرزها تلك الدراما الإنسانية التي كان مسرحها بلاط السنهدريم وبيلاطس وهيرودس? ثم تلك التلة الرهيبة المعروفة في التاريخ بتلة الجلجثة. وقد تناول الباحث البريطاني فرانك موريسون في كتابه: “من دحرج الحجر?” قصة صلب المسيح وقيامته بعقلية القانوني المتضلع الذي استهدف أن يدحض مزاعم المسيحية? ولكن دراسته أسفرت عن نتائج لم يكن موريسون نفسه يتوقعها. فبدلاً من أن يكون الكتاب تفنيداً لأسطورة الصلب كما كان يعتقد? جاء البحث ليكون وثيقة إثبات صارخة في وجه الرافضين الساخرين5 . وعلينا أن نشير هنا إلى أن الوثائق المتوافرة لدينا تنبر أن محاكمة المسيح استغرقت ليلة بكاملها وشطراً من النهار التالي. وكانت تلك في محضر رؤساء اليهود? ومجلس السنهدريم وهو أعلى سلطة دينية في زمن المسيح. لهذا فإن الاعتقاد الشائع بين المسلمين أن المصلوب لم يكن المسيح بالذات بل شخصاً آخر لعله يهوذا الإسخريوطي? اعتقاد خاطئ من أساسه لم تثبته الوقائع ولا يتفق مع طبيعة الأحداث. ألم يكن في وسع المصلوب البديل في أثناء محاكمته أن يحتج ولو احتجاج الضعيف نافياً أنه المسيح? إن الوثائق التي بين أيدينا لم تسجل لنا احتجاجاً واحداً أو شبه احتجاج صدر عن هذا الشبيه! ولا أعتقد أن يهوذا الإسخريوطي - إن كان حقاً هو المصلوب كما يدَّعي المسلمون - يهمل مثل هذه الفرصة الذهبية لإنقاذ نفسه من هذه الميتة الشنيعة. وكذلك يسجل لنا الإنجيل موقفاً إنسانياً لا يمكن أن يصدر عن شخص غير المسيح بالذات. ففي الساعات الأخيرة من حياته? وهو ما برح معلقاً على الصليب? نراه بكل محبة يصفح عن قاتليه وأعدائه. وهذا فعل لا يمكن أن يأتيه شخص مثل يهوذا الإسخريوطي الخائن الذي سلم سيده إلى أيدي خصومه الألدّاء. وبالإضافة إلى ذلك? علينا أن لا ننسى دور مريم أم المسيح التي ظلت إلى جوار الصليب مع نساء أخريات ورد ذكرهن في الإنجيل? وكذلك شاهد العيان الحواريّ يوحنا الحبيب. هؤلاء شهدوا أحداث الصلب وخاطبهم المسيح في غمرة آلامه الهائلة قائلاً لأمه: “يا امرأة? هوذا ابنك? ثم قال ليوحنا: هوذا أمك”. ألم يكن في وسع مريم أم المسيح أن تميز صوت ابنها من صوت الشبيه? ثم هناك قضية هامة مرَّ بها المفسرون المسلمون مرور الكرام? وهي قضية جسد المسيح. لقد زعم المسلمون أن الشبه قد وقع على وجه المسيح ولم يقع على جسده إذ “الوجه وجه عيسى أما جسده فليس بجسده”6 . وقد جاء هذا القول في معرض تأويل الآية 157 من سورة النساء ولا سيما عبارة: “وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً”. فإن صح هذا القول? على رغم ما في هذا التأويل من ضعف يستنكره العقل? كيف أخفقت مريم أم المسيح في اكتشاف الفارق بين جسد ابنها وجسد الشبيه? ومن ناحية أخرى يتوافر لدينا دليل ماديّ يتعذر على أي باحث موضوعي تجاهله. فقد ورد في قصة صلب المسيح أن يوسف الرامي ونيقوديموس عضوي السنهدريم اللذين كانا قد آمنا سراً بالمسيح? قد استحصلا على إذن رسمي من الحاكم الروماني بيلاطس البنطي بدفن المسيح في قبر كان قد أعده يوسف الرامي لنفسه. واستطاعا معاً - وربما بمساعدة خدمهما - أن يقوما بجميع مراسيم الدفن كما نصت عليها الشريعة اليهودية? فلو كان المصلوب هو الشبيه? وليس المسيح? كيف لم يستطيعا أن يميّزا بين جسد المسيح وبين جسد الشبيه وهما اللذان قاما بغسله وتطييبه وتكفينه? أكان هذا الشبيه مماثلاً للمسيح في طوله? وحجمه ولون بشرته? وما قد يتميز به من خصائص جسدية شخصية? والحقيقة إن ما أقدم عليه يوسف الرامي كان إتماماً لنبوءة إشعياء النبي عن المسيح: “وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ? وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ” (إشعياء 53: 9). وأخيراً إن إيراد ذكر المواقف المخجلة التي ارتكبها حواريو المسيح وما اعتراهم من خوف وجُبن وهربهم أمام أعدائه وتخليهم عنه? وقضية إنكار بطرس لسيده ثلاث مرات لأكبر دليل على صحة قصة الصلب? إذ كيف يمكن للحواريين متى ويوحنا أن يدوّنا هذه التفاصيل المزرية لو لم يكن ذلك بوحي إلهي أمين? وهو وحي لا يحابي ولا يتحيّز لأحد. وكيف يمكن لبطرس وسواه من الحواريين أن يقبلوا ما قيل عنهم بالأناجيل لو لم يكن ذلك حقاً وصدقاً? إن من طبيعة كُتَّاب السِّير الذاتية أن يستروا معائبهم ويغالوا في إظهار مناقبهم. وهذا لا نراه إطلاقاً في قضية الصلب. وفي تعليقه على سورة آل عمران 3: 55 والتي تقول: “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ”. أجمل الفخر الرازي الإشكالات الناجمة عن نظرية الشبيه في ست نقاط. وهي في الواقع إشكالات بالغة الأهمية تقوم على أساس سليم من المنطق. وعندما حاول أن يرد عليها لم يجد جواباً مفحماً يمكن اللجوء إليه في دحضها سوى عرض بعض الآراء التي لا تسعف على شيء. ولكي ندرك أهمية هذه الإشكالات التي تولّد في نفس القارئ إحساساً عميقاً بأن الرازي نفسه كان مقتنعاً بها أو يكاد? فإننا سنقتبسها بدقة وأمانة كما أشار إليها المؤلف نفسه? وهي: الإشكال الأول: إنّا لو جوَّزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة? فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانية فحينئذ أجوّز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً ليس بولدي بل هو إنسان أُلقي شبَهه عليه? وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات. وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد? لاحتمال أنه أُلقي شبهه على غيره? وذلك يُفضي إلى سقوط الشرائع. وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس? فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى. وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية. الإشكال الثاني: وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه (مع المسيح) في أكثر الأحوال? هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ). ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر? فكيف لم يكفِ في منع أولئك اليهود عنه? وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى? وإبراء الأكمه والأبرص? فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة (العاهة) والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له? الإشكال الثالث: إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء? فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره? وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه? الإشكال الرابع: إنه إذا ألقى شبهه على غيره ثم إنه رُفع بعد ذلك إلى السماء? فالقوم اعتقدوا فيه أنه عيسى مع أنه ما كان عيسى? فهذا كان إلقاءً لهم في الجهل والتلبيس. وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى. الإشكال الخامس: إن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام? وغلوّهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً ومصلوباً? فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر? والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد? ونبوة عيسى? بل في وجودهما? ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام? وكل ذلك باطل. الإشكال السادس: أنه بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً? فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع? ولقال: إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره? ولبالغ في تعريف هذا المعنى? ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى? فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم. فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات. أما ردود الرازي على هذه الإشكالات أو الاعتراضات فقد وردت مبتورة تفتقر إلى الحجة والبرهان. ولكي نحافظ على موضوعية البحث رأينا أن نقتبس هذه الردود بحرفيتها لتكون في متناول القارئ وحكمه. قال الرازي: الجواب عن الأول: إن كل من أثبت القادر المختار? سلَّم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زيد مثلاً? ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور? فكذا القول فيما ذكرتم. والجواب عن الثاني: إن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء (أي اضطرار الله إلى إجراء تلك المعجزة)? وذلك غير جائز. والجواب عن الثالث: فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقى شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء (أي اضطرار الله إلى إجراء تلك المعجزة). والجواب عن الرابع: إن تلامذة عيسى كانوا حاضرين? وكانوا عالمين بكيفية الواقعة? وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس. والجواب عن الخامس: إن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم. والجواب عن السادس: إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى? جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة. وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه. ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد في كل ما أخبر عنه? امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع? والله وليّ الهداية.
عدل سابقا من قبل Admin في الأحد أبريل 01, 2012 6:14 am عدل 1 مرات | |
|
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| موضوع: رد: حقيقة الصلب بين المسيحية والاسلام .. دراسة وثائقية مقارنة الأحد أبريل 01, 2012 6:06 am | |
|
كانت هذه هي ردود الشيخ العلامة فخر الدين الرَّازي على قضية هي من أخطر القضايا العقائدية في الحوار بين المسيحية والإسلام. وهي ردود? كما ترى تتسم بالسذاجة? وكأنما أدرك صاحبها مسبقاً تعذر معارضتها أو دحضها فلجأ إلى هذا الأسلوب الملتوي تخلصاً من مجابهة الحقيقة? ولا سيما في عبارته الأخيرة التي كانت سبيله الوحيد للتهرب من الواقع الصارخ? وهي قوله: "ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد في كل ما أخبر عنه..."7. وهنا لا يسعنا إلا أن نبحث في ردود الرازي الواهية إيضاحاً للحقيقة? فنقول: جواباً عن الرد الأول: أجل? إن الله قادر أن يخلق من الشبه أربعين? كما يقول المثل العامي? ولكن في حالة المسيح هذه لم تكن هناك حاجة لذلك. فالمسيح لم يكن متهرباً من الصلب بل قد جاء في الدرجة الأولى? لفداء الإنسان? وهي مهمة اختارها لنفسه بفعل إرادته الشخصية. فلو تهرّب المسيح من الصّلب حقاً يكون قد تهرّب من المسؤولية التي أخذها على عاتقه? إما جبناً أو لامبالاة. وهذا ليس من شأن أنبياء الله? بل ليس من شأن يسوع المسيح الذي هو كلمة الله. فإذاً لم تكن هناك حاجة لمعجزة الشبه على الإطلاق. وجواباً عن الرد الثاني: لم يكن المسيح في حاجة إلى الملاك جبرائيل لينقذه من أيدي أعدائه? لأن المسيح كان قادراً على إنقاذ نفسه من غير معونة أحد. إن معجزاته التي أجراها قبل موته وقيامته كانت تفوق بقوتها عملية الإنقاذ? فيما لو حدثت حقاً. والواقع? كما دونه الإنجيل? لأكبر دليل على سلطانه اللامحدود. فعندما أقدم أعداؤه على الإحاطة به طرحهم أرضاً بكلمة منه? وكان بوسعه آنئذ أن يمضي في طريقه آمناً. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتواطأ فيها اليهود عليه فينسل من بينهم من غير أن يجرؤ أحد منهم على إيذائه. ولكن عندما دنت ساعته أسلم نفسه مختاراً لينجز ما جاء من أجله. إن دفع الأعداء عن نفسه لا يمكن كمعجزة أن يبلغ حد الإلجاء كما يدَّعي الرازي? وكان أجدر به أن يدرس مواقف المسيح في علاقته مع الناس وغرضه من التجسد ليدرك أن غفران الخطايا بموت المسيح على الصليب كان هو السبب الرئيسي لمجيئه وولادته من عذراء. وجواباً على الرد الثالث: نقول للرازي: أكان الله حقاً في حاجة إلى إلقاء الشبه على أحد? يدَّعي البعض أن عملية الشبه هدفت إلى عقاب يهوذا الإسخريوطي الذي غدر بالمسيح. بيد أن الإنجيل يقدم لنا تقريراً ضافياً عن مصير يهوذا هذا إذ أقدم على الانتحار ندماً على ما جنت يداه. ثم لماذا يبلغ عدم إلقاء الشبه عند رفع المسيح حدّ الإلجاء? وما هي الحكمة من وراء ذلك? أليس في رفع المسيح أمام اليهود أكبر إثبات لنبوته? بل إن رفعه إلى السماء على مرأى من اليهود يزيل مشكلة الشكّ في حقيقة المسيح التي راودت عقول القيادات الدينية اليهودية? وبالتالي يدركون أي خطأ جسيم اقترفوه بحق كلمة الله. وجواباً على الرد الرابع: صحيح أن حواريي المسيح وبعض أتباعه كانوا حاضرين في تلك الليلة الرهيبة? وشهدوا ما حدث لسيدهم? وقد رووه لنا بوحي من الروح القدس? مفصَّلاً في صفحات الإنجيل الكريم? فجاءت رواية الإنجيل المؤيدة بالشواهد والوثائق مخالفة تماماً لنص القرآن? وحكايات الحديث? وأوهام المفسرين المسلمين. لقد سجل لنا الحواريون بإرشاد الروح القدس وإلهامه? أحداث الصلب بكل أمانة فلم يغفلوا منها أدق التفاصيل. وجواباً عن الرد الخامس نقول: إن الرازي يناقض نفسه بنفسه. ففي رده على الإشكال الرابع يقول: “إن تلاميذ عيسى كانوا حاضرين وكانوا عالمين بكيفية الواقعة وهم يزيلون التلبيس”. وها هو الآن يقول إن الحاضرين كانوا قلة “ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم”. عندما وجد الرازي أن الاستشهاد بالحواريين يخدم غرضه لجأ إليهم كشهود عيان في إمكانهم أن يزيلوا التلبيس. ولكن فجأة يصبح هؤلاء الشهود أنفسهم عرضة للوقوع في الشبهة. والواقع أننا لو راجعنا سلسلة الأسانيد في أي حديث صحيح من الأحاديث النبوية لقلَّ أن نجد هناك إثني عشر إسناداً في آن واحد? مع العلم أن الذين شهدوا أحداث الصلب? والذين ظهر لهم المسيح بعد القيامة? وعاينوه يصعد إلى السماء يزيد عددهم عن الخمس مئة شخص. إذاً ما تواتر عن الحواريين هو حقيقة لا يشوبها الشك على الإطلاق. وجواباً عن الرد السادس نقول: إن الشبيه (طبقاً للروايات الإسلامية المتباينة) لم يكن مسلماً إلا في خبر واحد. ويميل معظم المفسرين المسلمين للاعتقاد أن الشبيه كان أحد أعداء المسيح? أي لم يكن مسلماً. لهذا من المستبعد جداً أن يعتصم بالصمت فلا يحتج أمام الملأ ويعلن بضراوة أنه ليس المسيح? أو “يسكت عن تعريف الحال في تلك الواقعة”. أما اللجوء إلى صدق محمد في كل ما أخبر عنه? فنحن أيضاً نلجأ إلى صدق المسيح وحوارييه في كل ما أخبروا عنه مما لا يدع مجالاً للشك في صحة ما ورد في الإنجيل المعصوم? فضلاً عن الوثائق التاريخية الوثنية والمسيحية المتوافرة لدينا. إن قصة الصلب لا يمكن أن تلغيها عبارة واحدة قابلة للتأويل صدرت بعد ما يزيد عن ستة قرون من وقوع الحادثة. كذلك اختلف المفسرون المسلمون في شخصية هذا الشبيه. وتعددت الروايات الخيالية التي حاكها القُصَّاص المسلمون وتلقَّفها من ثم أئمَّة المفسرين من غير تحقيق أو اعتماد أي شاهد تاريخي أو أثري أو أي نص موثوق به? حتى زادت عن سبع روايات. والدليل على ذلك أنه لم يوجد مسلم واحد استطاع أن يقدم برهاناً قاطعاً عن صحة ما رُوي عن حقيقة هذا الشبيه. وقد استطاع إسكندر جديد في كتابه “الصّليب في الإنجيل والقرآن” أن يجمع طائفة من هذه الروايات من مظانّها الأصليّة? وهي في مجملها تتناقض في التفاصيل والأسماء وترتيب الأحداث والمناسبة (انظر الصفحات 11-16). ولا عجب في ذلك? فإن مصادرها مختلفة متباينة نسجتها مخيّلات الرُّواة لتعليل عبارة قرآنية أو إثبات قضيّة تتعارض مع تعليم الإنجيل ولو على حساب الحقيقة. وتنبئنا المصادر التاريخية أن أسطورة الشبه هذه كما أشار إليها القرآن لم تكن أمراً مستحدثاً? بل سبق لهراطقة المسيحية في القرون الستة الأولى الميلادية أن نادوا بمثل هذه البدعة. فهذه فرقة البازيليديسيين الغنوسية تدّعي أن سمعان القيرواني الذي حمل الصليب عن المسيح عندما أعيا? رضي أن يُصلب عوضاً عن المسيح? فألقى الله عليه شبهه? فصارت هيئته مثل هيئة المسيح وتمَّ صلبه. وكذلك قال الدوكيتيون إن المسيح لم يُصلب مطلقاً إنما بدا أو تراءى لليهود أنهم صلبوه. والواقع أن اسم الدوكيتيين مشتق من فعل يوناني معناه “يظهر” أو “يتراءى”? وهو رمز لمجمل عقيدتهم في الصلب. ولم تندثر بدعة عدم صلب المسيح في سياق تاريخ الكنيسة بل ظلت تطل برأسها بين الفينة والفينة بين الأوساط المسيحية على أيدي أفراد أو جماعات متفرقة من دعاة المعرفة. ففي سنة 185 م ادّعت طائفة هرطوقية من نسل كهنة طيبة الذين اعتنقوا المسيحية أنه “حاشا للمسيح أن يُصلب? بل رُفع إلى السماء سالماً”. وفي سنة 370 م ظهرت إحدى الفرق الغنوسية الهرموسية التي أنكرت صلب المسيح وقالت: “إنه لم يُصلب بل شُبه للناظرين أنهم صلبوه”. وفي سنة 520 م فرّ ساويرس أسقف سوريا إلى الإسكندرية فوجد فيها فئة من الفلاسفة يعلّمون أن المسيح لم يُصلب بل شُبه للناس أنهم صلبوه. وفي سنة 560 م أنكر الراهب تيودورس طبيعة المسيح البشرية وبالتالي أنكر صلبه. وفي سنة 610 م شرع الأسقف يوحنا ابن حاكم قبرص ينادي مدعياً بأن المسيح لم يصلب بل شُبه للناظرين أنهم صلبوه8 . ومن جملة الذين نادوا بنظرية الشبيه أيضاً ماني المتنبّئ الفارسي (27 م) فقد ادّعى أن يسوع هو ابن أرملة? وأن الذي صُلب هو ابن أرملة نايين الذي كان المسيح قد أقامه من بين الأموات. ونقرأ في تقليد مَانَوِي آخر أن الشيطان الذي سعى في صلب المسيح وقع في حفرة مؤامرته وصُلب مكانه. يتضح من هذا العرض التاريخي الموجز أن بدعتي الشبه وإنكار صلب المسيح? قد أخذهما الإسلام عن الهرطقات المسيحية? ولا سيما أن هذه الهرطقات كانت شائعة في عصر ظهور الإسلام? وفي شبه الجزيرة العربية بالذات? بين الفرق الغنوسية التي لم تقم حجتها على الوقائع التاريخية أو المستندات الرسمية? بل كانت وليدة تصورات شخصية تدور في جوهرها حول طبيعة جسد المسيح9 . بل إننا نجد أن مجمع القسطنطينية الذي انعقد في سنة 381 م قد أرسل المطران غريغوري النيقي لزيارة الكنائس في العربية والقدس التي انفجرت فيها النزاعات وهددتها الانقسامات10 . خامساً: ولو فرضنا جدلاً أن قصّة الشَّبيه قد حدثت فعلاً فإن ذلك يضفي على الله صفتي الخداع والاحتيال. فالحواريون الذين بشروا بموت المسيح وقيامته يكونون في الواقع قد كرزوا بموت الشبيه وقيامته? وتبعتهم الكنيسة في ذلك على مدى ستة قرون. هذا الموقف يثير طائفة من الأسئلة التي لا بد من الإجابة عنها? أهمها: من هو مصدر هذا الخداع? لماذا لم يكشف الله الحقيقة لحواريي نبيّه ورسوله وتركهم مضَلّين ومضِلّين? لماذا سمح الله للبشر أن يستمروا في ضلالهم طوال العصور السابقة للإسلام? ولم يعلن لهم حقيقة المصلوب? من هو المسؤول عن ضلال ملايين من النفوس التي آمنت بأكذوبة? وما هو ذنب هؤلاء الذين آمنوا بنيّة صادقة بناء على تعاليم الإنجيل الذي بشر به الرسل? إن إصبع الاتهام في هذه الحالة يتجه نحو الله عزّ وجلّ. الواقع أن الذين ينادون بقصة الشبيه يجعلون من الله إلهاً مشابهاً في صفاته لآلهة الأساطير اليونانية كزوس وهيرا وأبولو الذين كانوا يتآمرون ويحتالون على بعضهم البعض وعلى الناس أيضاً. ولكننا نعلم يقيناً أن الله القدوس لا يمكن أن يكون مخادعاً محتالاً? لأن ذلك يتناقض مع طبيعته الإلهية. حاشا لله أن يكون محتالاً. وهنا أود أن أقتطف مقطعاً من كتيّب جليل هو كتاب “القول الصريح باتّباع دين المسيح” حيث جاء فيه: “فالقول إن الذي صُلب هو غيره? هو شبيه به? مخالف للعقل والنقل. أما كونه مخالفاً للعقل فإن إلقاء شبه المسيح على يهوذا أو تهريب المسيح من اليهود يدل على عجز فاعل هذا? والله ليس بعاجز. بل لو أراد الله أن يمنع قصد اليهود لأعجزهم وضربهم بالفشل والهلاك كما ضرب المصريين ومنعهم من أذى موسى وقومه فعبر هؤلاء البحر الأحمر سالمين وأغرق أولئك هم وملكهم كما في (خروج 15: 1)... وأما مسألة التهريب فهي من حيل المجرمين واللصوص لا من فعل الإله العظيم الذي هو على كل شيء قدير. وكذلك في مسألة التهريب تضليل للحكومة التي قامت بالتنفيذ? ولليهود الذين اشتكوا عليه? وللحواريين الذين آمنوا به واتبعوه وعززوه ونصروه بإيمانهم وشهاداتهم? ولأمه مريم وبقية أقربائها الذين حزنوا عليه حزناً شديداً. وحاشا لله أن يكون مخادعاً مضللاً للملايين من أتباع المسيح في كل أجيال الكنيسة. أما كونه مخالفاً للنقل فالتاريخ الروماني سجل الحكم على المسيح وتنفيذه في سجلات الحكومة الرومانية القائمة يومئذ? والتاريخ اليهودي أثبت هذه الحادثة بشهادة رؤساء الكهنة الذين كانوا من ضمن المشتكين عليه. والإنجيل نفسه قرر هذه الحقيقة بالتفصيل الكافي الوافي”11 . سادساً: ومن الأمور التي تسترعي الانتباه في قصة الصلب? حادثة القيامة. إن قيامة المسيح من بين الأموات لم تكن حدثاً عادياً لا أثر له في تاريخ الكنيسة وتطورها? بل على النقيض فإن القيامة هي سرّ استمرارية قوة الكنيسة ونموها المطرد. فإن كان الصلب هو موضوع الخلاص وجوهره فإن القيامة هي سر انتصار الكنيسة وغلبتها الروحية. فالصلب من غير قيامة لا قيمة له? والقيامة من غير صلب لا معنى لها. لهذا رأى الحواريون ومن بعدهم الكنيسة على مرّ العصور? في القيامة? الرمز الأبدي لاستمرارية الكنيسة وصمودها أمام الاضطهادات? والهرطقات وهجوم أصحاب الديانات الأخرى عليها. لكن للقيامة بُعداً آخر في الشهادة لموت المسيح. فالمسيح كما شهد الحواريون? بل كما شهد مئات من أتباع المسيح بعد قيامته مباشرة وفي خلال أربعين يوماً? قد ظهر لهم مؤكداً لهم أنه حقاً قد صُلب ثم قام من بين الأموات. ولعل أبرز حدث نستشهد به هو موقف الحواري توما الذي اشتهر بواقعيته وعقلانيته التي تميَّزت بالشَّك. هذا أبى أن يصدّق ما رواه له بقية الحواريين عن ظهور المسيح لهم? وظن كما يبدو أن ما اعتراهم من ألم وحزن على صلب سيدهم وموته قد أثر على عقولهم? لهذا تحداهم قائلاً: “إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ? وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ? وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ? لا أُومِنْ” (يوحنا 20: 25). وبعد ثمانية أيام فيما كان الحواريون جميعاً مجتمعين في العلِّيّة ومن جملتهم توما? وقد أحكموا إغلاق الأبواب خوفاً من اليهود? ظهر المسيح لهم فجأة ووقف في وسطهم وحيّاهم? ثم التفت نحو الحواري توما وقال له: “هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ? وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي? وَلا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً” (يوحنا 20: 27). هذه الحادثة إن دلّت على شيء إنما تدلُّ على أن قصة صلب المسيح قد تعرضت حقاً للتحقيق والتمحيص حتى بين أوساط الحواريين? وهم أقرب الناس إلى المسيح وأكثرهم ولاء له. فلا يجوز إذاً أن نستخف بما ورد عنها من نصوص كتابية وندّعي? من غير إثبات أو بيّنة? أن قصة صلب المسيح من نسيج تخيلات الأولين? أو نقتبس ما ردده الهراطقة وكأن أقوالهم آيات منزلات.
| |
|
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| موضوع: رد: حقيقة الصلب بين المسيحية والاسلام .. دراسة وثائقية مقارنة الأحد أبريل 01, 2012 6:11 am | |
|
(ب) أسباب كتابية بعد أن تحدّثنا عن الأسباب المنطقيّة التي تدعونا للإيمان بحقيقة الصلب والتّشبُّث بها? يتحتَّم علينا أن نعتمد نصوص كتابنا المقدس كمرجع أوّلي لهذا البحث? ولا سيما أن القرائن التاريخية والحفريات تدعم وثائق الأسفار. أولاً: إن عقيدة الكفارة عن الخطايا لم تكن عقيدة مستحدثة? بل نراها جزءاً لا يتجزأ في جوهر كل الممارسات الدينية حتى في ممارسات الأديان الوثنية. والحقيقة الثابتة أن هذه الممارسات كانت في أساسها ممارسات سليمة سنَّ الله قانونها الأول بعد سقوط آدم وحواء في خطيئة العصيان. فبالرغم من عصيان آدم وعدم اعترافه بخطيئته? أخذ الله حيواناً وسلخ جلده وصنع لهما ثوبين ليستر عورتيهما (سفر التكوين 3: 21). والدارس للفظة “كفارة” أو تكفير يكتشف أن معناها القاموسي هو الستر أو التغطية. وهكذا يلاحظ أن عملية التكفير هي عملية شرّعها الله منذ عهد آدم. وظلت هذه الشعائر قائمة في ممارسة التعبد? فهذا قايين وهابيل يقدمان قرابين لله? فيتقبل الله قربان هابيل لأنه مؤسسٌ على الدم? ويرفض قربان قايين لأنه اعتمد فيه على أعمال يديه. وكذلك كانت قرابين نوح? وإبراهيم? وإسحق ويعقوب قرابين دموية. ثم أصبحت هذه القرابين في عهد موسى? شريعة مكتوبة. وكلها كما أثبت الدارسون كانت رموزاً للذبيحة الكبرى? أي صلب المسيح12 . وقد أخذت الأمم الوثنية هذه الشعائر عن رجال الله المؤمنين وانتحلتها لآلهتها الوثنية? فشوَّهت معالمها? وإن ظلت القرابين في جوهرها رمزاً للتكفير. أما الكفارة في الإسلام فتقوم على الأعمال الصالحة? فالحسنات والصدقات تمحو السيئات. كذلك فإن ممارسات الأركان الخمسة والجهاد في سبيل الله? وتلاوة القرآن? مدعاة إلى غفران الخطايا13 . ولكن هناك قضية أخرى في الإسلام لا بد من التنويه بها استيفاءً منا للبحث? وهي قضية الفدية. ولعل أبرز إشارة في القرآن لموضوع الفدية نجده في سورة الصافات 37: 107 في معرض الحديث عن قصة تقديم ابن إبراهيم ذبيحة: “وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ”. ويفسر البيضاوي هذه الآية بقوله: أي بما يُذبح بدله فيتم به الفعل. ويورد الرازي في شرحه لهذه الآية حديثاً: ... وقال السدّي: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحطَّ من الجبل فقام عنه (أي: عن ابنه) فأخذه فذبحه وخلّى عن ابنه? وقال: يا بنيَّ اليوم وهبت لي... وقيل سُمِّي (الكبش) عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد إبراهيم. أما كيف وهب له في ذلك اليوم? ذلك لأن الكبش الأملح ذبح فداء عن ابن إبراهيم. وبهذا وهبت له حياة جديدة. كذلك كان الكبش عظيماً? أولاً لأن الله هو الذي أعده? وثانياً لأنه كان رمزاً للذبيحة الكبرى? أي المسيح فادي البشرية جمعاء الذي قال عنه يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا): “هُوَذَا حَمَلُ اللّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ” (يوحنا 1: 29). ونقرأ أيضاً في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي? ج 1? ص 243 ما يلي: “وأما ذبح الهدي فاعلم أنه تقرُّب إلى الله تعالى بحكم الامتثال فأكمل الهدي وارجُ أن يعتق الله بكل جزء منه جزءاً منك من النار? فهكذا ورد الوعد? فكلما كان الهدي أكبر وأجزاؤه أوفر كان فداؤك من النار أعم (الهدي هي الذبيحة التي تقدم إلى الحرم في مكة)”. وفي مكان آخر يقول الغزالي: “وروت عائشة ... أن رسول الله... قال: ما عمل آدمي يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من إهراقه دماً? وإنها (أي الضحية) لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأن الدم يقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع بالأرض? فطيبوا بها نفساً. وفي الخبر: لكم بكل صوفة من جلدها حسنة? وكل قطرة من دمها حسنة? وإنها لتوضع بالميزان فأبشروا. وقال صلى الله عليه وسلم: استنجدوا هداياكم فإنها مطاياكم يوم القيامة”14 . ثانياً: إن العهد القديم يكتظ بالنبوءات عن موت المسيح وقيامته. ويكفي أن نلقي نظرة على سفر إشعياء? الأصحاح 53: 1-12 “مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا? وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ? نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ? لا صُورَةَ لَهُ وَلا جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ? وَلا مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ? رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ? وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا? مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اللّهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا? مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلامِنَا عَلَيْهِ? وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ? وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ? كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ? وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ? أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي? وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ? وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً? وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ? وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ? وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً? مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ? وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ”. حتى ندرك أن أنبياء العهد القديم لم يكونوا يعيشون بمعزل عن توقع هذا الحدث العظيم. ومن حيث أن المجال لا يتسع هنا إلى الإشارة إلى المواضع الوفيرة التي تنبئ عن موت المسيح وآلامه وقيامته فإني أحيل القارئ إلى كتاب قضيّة الصليب للدكتور لبيب ميخائيل15 . ثالثاً: إن المسيح نفسه قد تحدث عن موته وقيامته. والأناجيل مفعمة بالآيات البينات الجازمة التي نطق هو نفسه بها والتي تشير إلى صلبه وآلامه. وفي هذه الحال إما أن يكون المسيح كاذباً عندما تحدث عن موته أو أن يكون مجنوناً اختلط عليه الأمر? أو صادقاً لا ينطق بغير الحق. ولم يوجد أحد قط? حتى من بين أعدائه? من اتهم المسيح بالكذب. وبالطبع? لا يجرؤ أي مسلم أن يتهم المسيح بالكذب أو الجنون. بقي أن نقول إن المسيح كان صادقاً في كل ما بشر به وأخبر عن نفسه. ولا يجدي هنا أن ندعي أن ما ورد من أخبار الإنجيل عن موت المسيح هو من انتحال الحواريين أو سواهم من آباء الكنيسة الأولى للأسباب المذكورة أعلاه في مستهل هذا البحث? ولا سيما أن أتباع المسيح هؤلاء مشهود لهم بالصدق والأمانة. وأكثر من ذلك نجد الحواري يوحنا الذي لازم المسيح منذ صباه يقول في حديثه عن المسيح: “اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ? الَّذِي سَمِعْنَاهُ? الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا? الَّذِي شَاهَدْنَاهُ? وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا? مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ? وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا” (يوحنا الاولى 1: 1-2). وقد ردد بقية الحواريين مثل هذه الشهادة ولا سيما الحواري بطرس? وهم جميعاً شهود عيان صادقون16 . ولكن أعظم شهادة يمكن أن نقتبسها في سياق هذه الدراسة هي شهادة المسيح لنفسه. فقد تناول المسيح نبوّات العهد القديم وطبقها على نفسه? وعمد إلى تفسيرها تفسيراً لا يترك شائبة ريب في عقول مستمعيه? فنجد عبارات: “لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ... ” وهي مقتبسات مأخوذة كلها من العهد القديم? فجاء ذكرها في العهد الجديد? تطبيقاً عملياً للنبوءة الواردة في العهد القديم. وعلى سبيل المثال (راجع يوحنا 19: 24). وها هو المسيح يخاطب حواريّيه قائلاً لهم: “هذَا هُوَ الْكَلامُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ? أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ. حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ. وَقَالَ لَهُمْ: هكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ? وَهكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ” (لوقا 24: 44-46). إن هاتين الآيتين تشتملان على حقيقتين خطيرتين لا بد من الإشارة إليهما قبل الانتقال إلى بحث الوثائق التاريخية. أولهما? أن المسيح في اقتباسه نبوّات العهد القديم? وقوله “إنه ينبغي أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير” قد أكد أن العهد القديم بكامله (باستثناء الأسفار التاريخية) قد أنبأ بمجيئه. ومن الغريب حقاً أن نجد المسلمين يتناولون بعض النبوّات التي اعتمدها المسيح نفسه? وأوضح بما لا يدع مجالاً للشك بأنها تشير مباشرة إليه? وينسبونها إلى محمد. وثانيهما? أن المسيح نفسه? وبعبارة صريحة? بيّن لحوارييّه أنه كان ينبغي عليه أن يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث. هذا اعتراف صارخ يتعذّر على المتشككين إنكاره.
| |
|
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| |
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| موضوع: رد: حقيقة الصلب بين المسيحية والاسلام .. دراسة وثائقية مقارنة الأحد أبريل 01, 2012 6:30 am | |
|
(د) الوثائق الغنوسيّة: الغنوسيّة كلمة معربة عن اللفظة اليونانية gnosis ومعناها المعرفة. والغنوسيّة حركة دينية فلسفية تجمع تحت مظلتها فرقاً شتى تتباين في بعض مبادئها? وتتفق في بعضها الآخر. وقد جعلت هذه الحركة المعرفة الأساس الذي بنت عليه عقائدها الدينية. وسبق لنا أن عرضنا إلى مبدأ الشَّبه في الغنوسية والأبيونيّة والدوكيتية الذي نادت به معظم فرقها والذي? كما يبدو? قد تأثرت به النظرة الإسلامية في مفهومها لصلب المسيح. غير أن تعليم الشبه في الغنوسية كان يرمي إلى غرض يختلف عما كان يرمي إليه الدين الإسلامي. فالغنوسية أو بعض فرقها على الأقل? رأت أن المسيح وهو إله متجسِّد? لا يمكن أن يتعرّض للصّلب لأن جسده يغاير أجساد البشر. لهذا يتعذر أن يكون المصلوب هو جسد المسيح. أما الإسلام فلا ينكر عملية الصليب? ولكنه ينكر أن المصلوب كان المسيح? ليس على أساس طبيعة جسده إنما على أساس أن المسيح لم يصلب إطلاقاً بل رُفع إلى السماء بقدرة الله قبل أن يتمكن أعداؤه من القبض عليه? وأوقع الله شبهه على آخر فحلّ محله.
بيد أن دراستنا للآثار الدينية والأدبية للحركة الغنوسية توفِّر لنا أدلة أخرى على صحة رواية الإنجيل عن صلب المسيح وقيامته? ولا سيما ما ورد في المؤلفات الغنوسية الأولى كمثل إنجيل الحق (135-160 م) وإنجيل يوحنا الأبوكريفي (120-130) وإنجيل توما (140-200 م) ومع أن هذه الأناجيل غير موحى بها من الله? فإنها كلها تتحدث عن الكلمة? وأن المسيح هو إله وإنسان. ونجد هذه الفقرة في إنجيل الحق:
“كان يسوع صبوراً في تحمله للآلام... لأنه علم أن موته هو حياة للآخرين... سُمِّر على خشبة? وأعلن مرسوم الله على الصليب? هو جرّ نفسه إلى الموت بواسطة الحياة... سربلته الأبدية. وإذ جرّد نفسه من الخرق البالية فإنه اكتسى بما لا يبلى مما لا يستطيع أحد أن يجرده منه”13.
ونطالع أيضاً في كتاب غنوسي The Secret Teaching of Christ وهو مؤلف من القرن الثاني ما ترجمته:
“فأجاب الرب وقال: الحق أقول لكم: كل من لا يؤمن بصليبي فلن يخلص? لأن ملكوت الله من نصيب الذين يؤمنون بصليبي”14 .
(ه ) الوثائق المسيحية: الوثائق المسيحية دينية كانت أم أدبية أم تاريخية? هي سجل دقيق تعكس عمق إيمان آباء الكنيسة الأولى بكل ما تسلَّموه من الحواريين من تعاليم وأخبار? إما عن طريق التواتر بالإسناد الموثق? أو عن طريق الكلمة المكتوبة. كذلك هي إثباتات قاطعة على صحّة ما ورد في الأناجيل من أحداث وعقائد ولا سيّما ما يختص بموت المسيح وقيامته. وكما أن هذين الحدثين يشغلان حيزاً كبيراً من العهد الجديد فإنهما أيضاً كانا المحور الأساسي في مؤلَّفات آباء الكنيسة الأولى.
يقول جوش مكدويل? وهو أحد كبار المختصين بالمخطوطات المسيحية:
“لا يوجد كتاب في الدنيا تدعمه المخطوطات الكتابية القديمة كما هو الحال مع الكتاب المقدس. وقد شاءت العناية الإلهية أن يتم العثور على مخطوطات البحر الميت التي أثبتت? بما لا يدع أي مجال للشك? صحة الكتاب المقدس وصدقه ولا سيما نصوص العهد القديم? وبالأخص سفر إشعياء”.
وبالطبع فإن هذه المخطوطات تنص على النبوّات المتعلقة بموت المسيح وقيامته كما هو الحال في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا. وأكثر من ذلك? إذا رجعنا إلى مؤلفات آباء الكنيسة منذ العصر الاول الميلادي وجمعنا مقتبساتهم من العهد الجديد لوجدنا أنه يمكن إعادة كتابة العهد الجديد بكامل نصه باستثناء سبع عشرة آية فقط. وهذه النصوص لا تختلف عما لدينا من نصوص العهد الجديد الحالي? ومن جملتها كل ما جاء عن لاهوت المسيح وموته وقيامته.
أما مؤلفات آباء الكنيسة فهي:
(1) رسالتان من تأليف اكليمندس أسقف روما.
(2) رسائل قصيرة من تأليف أغناطيوس كان قد بعث بها إلى الأفراد والكنائس في أثناء رحلته من أنطاكية إلى روما حيث استشهد.
(3) رسالة بوليكارب تلميذ الحواري يوحنا إلى أهل فيلبي.
(4) الديداتشي أو تعليم الرسل? وهو كتيب مبكر يدور حول أمور عملية متعلقة بالقيم المسيحية ونظام الكنيسة.
(5) رسالة عامة منسوبة إلى برنابا وفيها يهاجم بعنف ناموسية الديانة اليهودية? ويبين أن المسيح هو تتمة شريعة العهد القديم.
(6) دفاعيات جاستنيان? وقد أورد فيها طائفة من الحقائق الإنجيلية? ولا سيما ما يختص بشخص المسيح وحياته الأرضية وصلبه وقيامته. هذا فضلاً عن مؤلفات أخرى وصلتنا مقتطفات منها كدفاع كوادراتوس الذي اقتبس منه يوسيبس الفقرة التالية:
“إن منجزات مخلصنا كانت دائماً أمام ناظريك لأنها كانت معجزات حقيقية? فالذين برئوا? والذين أقيموا من الأموات لم يشهدهم الناس عندما برئوا أو أقيموا فقط بل كانوا دائماً موجودين (معهم). لقد عاشوا زمناً طويلاً. ليس فقط في أثناء حياة المسيح الأرضية بل حتى بعد صعوده. إن بعضاً منهم بقوا على قيد الحياة إلى وقتنا الحاضر”.
وكذلك مخطوطة راعي هرمس وقد دعيت بهذا الاسم نسبة إلى أبرز شخصيات الكتاب. أما فحوى المؤلَّف فينطوي على مجموعة من الأمثال والأوامر المختصة بالعقيدة15 .
(و) الرسوم والنقوش والفرائض يوفر لنا تاريخ الكنيسة أيضاً بيّنات أخرى هامة على اعتقاد مسيحيي القرون الأولى الوثيق بصلب المسيح وموته وقيامته? فقد تم العثور في سراديب روما وأقبيتها على رسوم شعار الصليب ونقوشه? وهي أماكن كان يجتمع فيها المسيحيون سراً خوفاً من جواسيس الحكومة الرومانية الوثنية. كذلك عمد المسيحيون إلى نقش شعار الصليب على أضرحة موتاهم تمييزاً لها عن أضرحة الوثنيين. فلو لم يكن هؤلاء المسيحيون على ثقة أكيدة من صلب المسيح لما أخذوا الصليب شعاراً لهم? ولا سيما أن الصليب كان رمز عار عند اليهود والرومان على حد سواء. أما الآن بعد صلب يسوع المسيح البار عليه أصبح رمز فخر وإيمان. ولو لم يكن الصليب حقيقة متأصلة في إيمان هؤلاء المسيحيين لما تحملوا من أجله كل اضطهاد واستشهدوا في سبيله. وبعض هؤلاء كانوا شهود عيان لصلب المسيح? والبعض الآخر تسلموا هذه الحقائق من الحواريين أو مما وصل إلى أيديهم من الأناجيل والرسائل المكتوبة التي أوحى بها الروح القدس.
أما الفرائض وبالأخص فريضة العشاء الرباني التي مارسها المسيح في الليلة التي أُسلم فيها? فقد احتلت مكانة مرموقة في ممارسات الكنيسة على مر العصور. وترجع أهمية هذه الفريضة إلى أنها - كما أوَّلها المسيح نفسه - رمز إلى صلبه وموته. وعندما يمارسها المسيحيون فإنما يفعلون ذلك لإحياء الذكرى المقدسة (إنجيل متى 26: 26- 29? إنجيل مرقس 14: 22-25? إنجيل لوقا 22: 14-20? والرسالة الاولى إلى أهل كورنثوس 11: 23-27).
ومن الملاحظ أيضاً أن فريضتي العشاء الرباني والمعمودية تذكرنا بموت المسيح فداءً عن خطايانا والمعمودية التي حض المسيح حوارييه على القيام بها (إنجيل متى 28: 19) كرمز لموتنا وقيامتنا معه? قد مارسهما الحواريون أنفسهم تطبيقاً لوصية المسيح بالذات. وما برحت الكنيسة تعمل بهما إلى هذا اليوم
| |
|
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| |
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| موضوع: رد: حقيقة الصلب بين المسيحية والاسلام .. دراسة وثائقية مقارنة الأحد أبريل 01, 2012 6:54 am | |
|
وفي صفحة 360 نجد مقتطفات بتصرف من خطاب المسيح إلى حواريّيه في الليلة التي أسلم فيها. وكان وهب هذا يقول: “لقد رأيت إثنين وتسعين كتاباً كلها من السماء: إثنان وسبعون منها في الكنائس وفي أيدي الناس? وعشرون لا يعلمها إلا القليل”9 . لا شك أن الإثنين وسبعين كتاباً التي أشار إليها وهب هي أسفار العهدين القديم والجديد الستة والستون كما نعرفها اليوم. بالإضافة إلى كتب الأبوكريفا التي اعتمدتها بعض الطوائف. أما العشرون كتاباً الآخرون فهي بلا ريب كتب غنوسية اقتصر شيوعها بين الفرق الغنوسية والأبيونية وأصحاب البدع. أما كونها كلها من السماء فهذا أمر فيه نظر لأن وهب كما يبدو? كان لا يميّز بين ما هو موحى به من الحق الإلهي والمؤلفات الهرطوقية. وأورد الطبري في تفسيره على لسان وهب قصَّة مماثلة مع اختلاف يسير في النص إذ ادّعى أن عيسى بقي هناك سبع ساعات قبل مجيء أمه ورفيقتها. ويقول ابن الأثير في تاريخه الكامل: ورفع الله المسيح إليه بعد أن توفاه ثلاث ساعات? وقيل سبع ساعات? ثم أحياه ورفعه ثم قال له: انزل إلى مريم? فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها. نزل عليها بعد سبعة أيام? فاشتعل الجبل حين هبط نوراً? وهي عند المصلوب تبكي ومعها امرأة كان أبرأها من الجنون. فقال: ما شأنكما تبكيان? قالتا: عليك! قال: إن الله رفعني إليه ولم يصبني إلا خير? وإن هذا شبه لهم? وأمرها فجمعت له الحواريين فبعثهم في الأرض رسلاً عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمره الله به. ثم رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب. وطار مع الملائكة فهو معهم فصار إنسياً ملكياً? سماوياً? أرضياً10 . فعلى الرغم مما في هذه القصة من تخليط وتشويه? فإنها تكشف بصورة قاطعة عن مدى تأثر الرواة المسلمين بالمذهب الأبيوني? ولا سيما بما يتعلق بحالة المسيح بعد موته وطبيعته التي صار عليها بعد صعوده. والغريب في الأمر هو تقبل الرواة المسلمين وجود طبيعتين للمسيح. إنسية - ملكية أو سماوية - أرضية? ومع ذلك يستنكرون قول المسيحيين بلاهوت المسيح وناسوته. ولكن مما يدعو حقاً إلى الدهشة أننا لا نعثر على أي حديث نبوي صحيح يؤكد فيه على موضوع الشبيه إيضاحاً لما جاء في النص القرآني? علماً أن مشكلة الصليب هي من أبرز نقاط الخلاف بين المسيحية والإسلام. فكل ما تواتر إلينا من أخبار هي من مزاعم المفسرين والرواة الذين أولعوا بالغريب والمثير التي لو أمكن تحري مصادرها كلها لوجدنا أصولها في أساطير الأولين? والمؤلفات التي كانت شائعة في العصر. ولعل خير ما جاء في هذا الصدد كتاب “مصادر الإسلام” لمؤلفه “سنكلير تسدل” الذي استطاع أن يتتبع معظم قصص المفسرين والرواة المتعلقة بالأخبار الكتابية إلى مظانّها الأولية. فلماذا أغفل الحديث النبوي تفسير هذه الآيات المبهمة? مع العلم أن كتب السير والأحاديث قد أوردت لنا مجموعة كبيرة من التفاسير والشروحات لآيات أكثر وضوحاً ألقاها محمد على أصحابه. فماذا نستخلص من هذه البيّنات? أولاً: إن تأثير هرطقات الفِرق الدينية المسيحية التي كانت مزدهرة في عصر ظهور الإسلام كان عميقاً على مواقف المفسرين الذين تلقوا أخبارهم بما يختص بالعقائد اليهودية والمسيحية من رواة أو علماء اقتصرت معارفهم على علوم تلك الفرق وبدعهم. ومن الجلي أن وهب هذا كان مطلعاً على مبادئ الدوكيتيين والأبيونيين والغنوسيين. ثانياً: إن بعض هؤلاء الرواة كانوا قد أسلموا كمثل وهب بن منبه? فحملوا معهم بذور عقائدهم الأولى وحاولوا أن يوفقوا بينهاوبين تعاليم الإسلام. والواقع أن ما رواه وهب كان أقرب شيء إلى معتقدات المسيحيين. ولعله سعى من وراء ذلك أن يقوم بعملية توفيقية واعية مقصودة للتقريب بين وجهتي نظر متباينتين11 . ثالثاً: نجد في رواية وهب دليلاً تاريخياً على صحة ما نقله إلينا الإنجيل من قصة الظلمة مما يخالف ما جاء عن حادث الرفع المباشر الذي ورد ذكره في القرآن. وأرى لزاماً عليّ أن أشير هنا إلى حديث نبوي متفق عليه جاء فيه: وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كأني أنظر إلى رسول الله... يحكي نبياً من الأنبياء? صلوات الله وسلامه عليهم? ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه? يقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”12 . فمن هو النبي الذي ردد هذه الكلمات? وفي أي مناسبة? إن الباحث في الكتاب المقدس بأكمله لا يعثر على مثل هذا النبي في العهد القديم? وإنما يجد تقريراً ضافياً عما تعرض له المسيح من إهانة وآلام ثم تعليق على خشبة الصليب? وهناك في لحظاته الأخيرة قال: “يَا أَبَتَاهُ? اغْفِرْ لَهُمْ? لأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ” (لوقا 23: 34). هذا هو النص الكامل لدعاء المسيح على الصليب في لحظة هي من أشد لحظات الألم التي يتعذر على العقل البشري أن يتصورها. والحق يُقال أن ما أورده الحديث هو دليل آخر وإن كان غير مباشر? على صدق الكتاب المقدس. وهذا الحديث بالذات يتنافى مع ادعاء الرفع المباشر الذي يخلو كلياً من أي ذكر لآلام المسيح? إن في القرآن أو في تأويلات المفسرين. أما الآيتان 15 و33 الواردتان في سورة مريم في السلام على يحيى وعيسى في يوم مولدهما وموتهما وبعثهما فهما? في رأيي برهان آخر على موت المسيح لسببين أساسيين هما: أولاً: إن جميع المفسرين المسلمين يُجمعون علىأن يحيى قد مات وأن آية “وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً” التي قيلت فيه مماثلة في صياغتها اللغوية للآية التي نطق بها عيسى عن نفسه: “سَلاَمٌ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً” (سورة مريم 19: 15 و33). فلماذا إذاً لا يطبق المفسرون المسلمون على عيسى نفس التأويل الذي طبقوه على يحيى? لماذا يتلاعبون بتفسير الآيتين وفقاً للأهواء والنوايا المغرضة? لماذا يقولون في شرح الآية الأولى إنها تشير حقاً إلى موت يحيى ويزعمون أن لفظة “أموت” في الآية الثانية تعني الموت المستقبلي في آخر الزمان? ثانياً: إن الوثائق التاريخية? والبينات القرآنية? والقرائن المنطقية التي اعتمدناها واستقرأناها من بطون الكتب? والمراجع الموثوق بها? تثبت أن لفظة “أموت” الواردة في الآية أعلاه كانت تلمح إلى موت المسيح القريب وليس إلى ما سيحدث في آخر الزمان. أضف إلى ذلك أن ابن عباس المعروف بترجمان القرآن وسواه من المفسرين الذين كانوا أقرب منا إلى اللغة قد فهموا أن الإشارات المختلفة المبثوثة بين آيات القرآن عن وفاة المسيح توعز إلى موته القريب بغض النظر إن كانت الوفاة ثلاث ساعات أو سبع ساعات. قال الدكتور محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق: إن عبارة توفَّيتني... تحمل في ذاتها معنى الموت العادي. وليس هناك من سبيل لتأويل “الموت” بأنه سيقع بعد رجوع (المسيح) من السماء? على فرض أنه الآن حي في السماء? لأن الآية تحدد بكل وضوح علاقة عيسى بقومه في زمانه وليس بعلاقته بأهل زمان رجوعه... فإن كل ما تعنيه الآيات التي تشير إلى هذا الموضوع هو أن الله قد وعد المسيح أنه سيتمم له حياته وأنه سيرفعه إليه13 . وفي هذا الصدد يقول G. Parrinder “إن قواعد الآية 33 القرآنية من سورة مريم لا تتضمن المعنى المستقبلي الذي يوحي بالموت بعد المجيء الثاني. إن المعنى البسيط? كما يبدو? هو الموت الجسدي في نهاية حياته الإنسانية الأرضية يومئذ”14 . وينبر أحد الكتاب المحدثين على أن الله يخاطب في سورة آل عمران 3: 55 المسيح بما معناه “حقاً أنا الذي أدعوك للموت” أو “إنه أنا الذي أميتك”15 . ويشير Neal Robinson في كتابه Christ in Islam and Christianity إلى أن: الثلاث آيات المتعلقة بمحمد والآيتين المتعلقتين بالمسيح (وهي الآيات التي وردت فيها ألفاظ: متوفيك وتوفيتني ولنتوفينَّك) هي وحدها الآيات التي ورد فيها الفعل مبنياً للمعلوم والله هو الفاعل? وأحد أنبيائه هو المفعول به? وأكثر من هذا فإن في هاتين المجموعتين من الآيات تأكيداً متماثلاً على أن الله هو الشهيد على أعمال الناس وأن الناس إليه يرجعون في يوم الدين16 . والسؤال المطروح أمامنا هو: شُبِّه لمن? لا شك أن المقصود في النص القرآني بكلمة “لهم” هم اليهود والرومان الذين أقدموا على صلب المسيح. ولكن ماذا عن حواريي المسيح وأمه وأتباعه? فهل شُبه لهم أيضاً? إن القرآن يسكت عن ذكرهم إذ من الجلي أنهم لم يكونوا من الذين “شُبِّه لهم”. بمعنى آخر إن الحواريين الذين كانوا موجودين هناك لم يقعوا في فخ “شُبِّه لهم” بل أدركوا أن المصلوب هو المسيح بالذات وليس سواه. ولعل أكبر دليل على ذلك أن الحواريين ورسائلهم المكتوبة بوحي من الروح القدس? محورها صلب المسيح وقيامته. هذا مع العلم أنه لم يوجد أي دليل وثائقي أو تاريخي يمكن الاعتماد عليه يثبت أن اليهود والرومان كانوا في شك من حقيقة المصلوب. فيهوذا قد انتحر وعثروا على جثته ودفنوها في حقل الفخاري? والظلمة خيمت بعد أن استودع المسيح روحه على الصليب بين يدي الآب السماوي وليس قبل أن يُصلب كما يزعم بعض الرواة المسلمين? ومريم أم المسيح وبعض حوارييه وأتباعه كانوا حاضرين عند صلبه? وجثمان المسيح طُيِّب وكُفِّن بأيدي مَن يعرفونه حق المعرفة? وكذلك الجنود الرومان الذين أشرفوا على صلب المسيح? واقتسموا ثيابه? وطعنوه بالحربة. هؤلاء لم تخالجهم أية ريبة في حقيقة المصلوب? بل إن قائد المئة والحراس الذين كانوا معه إذ شاهدوا الظلمة ثم الزلزلة اعتراهم رعب شديد? وقالوا: “حقاً كان هذا ابن الله”. وأكثر من ذلك فإن القبر الفارغ أكبر برهان على حقيقة شخصية المصلوب. فلو كان المصلوب غير المسيح أكان بوسعه أن يقوم من الأموات ثم يظهر للحواريين وأتباعه لمدة أربعين يوماً? والحق يُقال? إن كل ما لدينا من وثائق معتمدة تدحض بقوة كل زعم أن المصلوب كان الشَّبيه? فأيُّ عذر بعد للمتشككين والرافضين? أما النص الأخير من آية 157 من سورة النساء: “وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً”. فيشوبها كثير من الغموض إن أخذناها على ظاهر النص لأنها في الواقع لا تتفق مع السياق العام للحادث. فقد بينا أعلاه أن حواريي المسيح لم يقعوا في فخ الشبه? وأنه لا يوجد أي برهان على أن الرومان واليهود كانوا في شك منه. إذاً من هم الذين اختلط عليهم الأمر? نجيب بكل بساطة? إنها الفرق المسيحية المختلفة التي كانت منتشرة في شبه الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام. صحيح أن القرآن كان يتكلم عن صلب المسيح ولكنه في سياق ذلك كان يعكس حركات التيارات الدينية والاتجاهات اللاهوتية التي كانت سائدة في زمانه. فالدوكيتيون والأبيونيون وسواهم من الفرق الهرطوقية من أصحاب الشبيه كانوا على خلاف مستمر مع المسيحية الكتابية التي تنادي بحقيقة صلب المسيح ولا تؤمن بخرافة الشبيه التي تخالف تعليم الكتاب المقدس17 . ومن الواضح أيضاً أن القرآن قد اتخذ موقفاً مؤيداً لعقائد الفرق الهرطوقية فانضم إليهم في صراعهم ضد المسيحية الكتابية. وأُرجِّح أن السبب الرئيسي في ذلك هو اقتصار اطلاع محمد على تعاليم هذه الفرق دون سواها? والتي تركت أثراً بليغاً في اتجاهه الديني. أضف إلى ذلك أن بعضاً من أتباع هذه الفرق قد انضموا إلى دعوته لأنها لم تتناف? في معظمها? مع ما كان يدعو إليه. وعلى ضوء هذا الترجيح يمكننا تعليل مواقف القرآن المتناقضة من المسيحيين? فالذين كان يطريهم هم فرق الشَّبيه من النصارى? أما الذين هاجمهم فهم أهل الإنجيل الذين آمنوا بموت المسيح وصلبه. ولعل قصة حواره مع مسيحيّي نجران وخلافه معهم حول لاهوت المسيح دليل ساطع على هذه الحقيقة. ومن المعروف أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام18 . أما موقف محمد من ذلك فغير واضح تماماً. فتارة نراه يبيح للمسلمين الأخذ عن أهل الكتاب. وطوراً نراه يحظر عليهم19 . بيد أن محمداً نفسه كان أحياناً يعقد حلقات حوار دينية مع أهل الكتاب من يهود ونصارى? بل كان يزور الكنيس اليهودي في يثرب20 . وتخبرنا كتب السيرة الإسلامية أن محمداً كان على صلة وثيقة بأحد أبرز الشخصيات المسيحية في مكة هو ورقة بن نوفل21 . كان ورقة ابن عم خديجة أُولى زوجات النبي. ويبدو أن علاقة محمد بورقة تعود إلى عهد مبكر جداً من حياة الدعوة الإسلامية22 ? كما أن ورقة بصفته الدينية والاجتماعية قام بعقد مراسيم زواج محمد بخديجة23 . وكان محمد آنئذ في الخامسة والعشرين من عمره. وعندما عاد محمد من غار حراء وروى لزوجته خديجة رؤياه أسرعت به إلى ابن عمها ورقة تسترشد برأيه خشية أن يكون قد أصاب زوجها مكروه. ولا شك أن محمداً الذي رفض أن يعبد آلهة مكة قد وجد في ورقة بن نوفل خير مرشد ديني يأنس إليه ويأخذ برأيه? وهو الخبير الضليع بشؤون الدين وأسفار أهل الكتاب. لقد عاصر محمد ورقة ما لا يقل عن ثماني عشرة سنة? خمس عشرة منها قبل الدعوة? وثلاث بعد الدعوة. وفي غضون هذه الفترة كما يبدو? لم يكف محمد عن البحث والتأمل. ويلوح لي أن ورقة بما تمتَّع به من معرفة باللغة العبرانية ونزعته التوحيدية كان المصدر الرئيسي في تغذية ذهن محمد بمفاهيمه الدينية. إن المصادر الإسلامية نفسها تؤكد لنا أن ورقة كرئيس للجالية المسيحية في مكة قد انهمك في ترجمة إنجيل العبرانيين الأبيوني إلى اللغة العربية24 . بالإضافة إلى ذلك فإن بعض الدارسين يعتقدون أن ورقة كان في الواقع أسقف مكة وينتمي إلى المذهب الأبيوني25 . فإن صح هذا الكلام - وليس هناك ما يدعو إلى الشك فيه - فإن اتجاهات ورقة اللاهوتية قد تركت أثراً بليغاً على مفاهيم محمد بشأن المسيح? والصليب والتجسد26 . ومن صحابة محمد من اليهود والنصارى الذين أسلموا لسبب أو لآخر: عبد الله بن سلام? وتميم الداري? وعبد الله بن صوريا وبلال الفارسي الذي قيل عنه إنه اعتنق المسيحية قبل إسلامه. فضلاً عمن كان في أهل الرسول من نساء وجوار ينتمين إلى أهل الكتاب. هؤلاء ولا ريب? قد نقلوا إلى الرسول كثيراً من أخبار أهل الكتاب وأنبيائهم كما كانت شائعة في الأوساط الشعبية. ثم كان هناك جمهرة من الصحابة الذين أخذوا عن أهل الكتاب واشتهروا برواية أخبارهم من غير أن يميزوا بين ما هو مقتبس حقاً من الكتاب المقدس أو ما نسج من أخيلة المحدثين الذين أولعوا بالقصص الشعبية والهراطقة. من هؤلاء الصحابة عبد الله بن العباس ترجمان القرآن? وعبد الله بن عمرو بن العاص? وأبو هريرة. وتوحي بعض الروايات المتوافرة لدينا أن محمداً? لم يحظر في كثير من الأحيان? على أتباعه دراسة أو مطالعة التوراة أو الإنجيل. غير أن هذه الروايات لم تفصل لنا أي جزء من التوراة أو أي إنجيل من الأناجيل أذن لهم بقراءته?وما هي الدواعي لذلك. وهناك روايات أخرى تنفي أن الرسول قد سمح للمسلمين أن يقرأوا أي كتاب ديني باستثناء القرآن27 . أورد البخاري في صحيحه بسند عبد الله بن سلام أن النبي قال: “بلِّغوا عني ولو آية واحدة وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار”28 . وأشار الحافظ الذهبي إلى حديث جاء فيه أن عبد الله بن سلام قدم على النبي وقال له: ·إني قرأت القرآن والتوراة فقال له: اقرأ هذه ليلة وهذه ليلة29 . ونعثر في صحيح مسلم على رواية طريفة متَّفق عليها عن طريق فاطمة بنت قيس أنها قالت إن رسول الله قال بعد أن جمع الناس: ... إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة? ولكن جمعتكم لأن تميم الداري كان رجلاً نصرانياً? فجاء وبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال30 . أما الحديث الذي أشار إليه محمد فهو عن الدابة الجساسة وهي? في رأيي? قصة من خرافات الأولين. وفحوى هذا الحديث كما رواه النبي أن تميماً الداري حدثه أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من قبيلتي لخم وجذام. وبعد أن مضى عليهم شهر في البحر هبت عاصفة هوجاء ألجأتهم إلى جزيرة حيث لقيتهم دابة كثيفة الشعر بحيث لم يتبينوا “ما قُبُلُهُ من دُبُرِه”. وعندما سألوها عن نفسها أخبرتهم أنها الجساسة? وطلبت إليهم أن ينطلقوا إلى رجل في الدير. “قال: لما سمَّت لنا رجلاً فَرَقنا (خفنا) منها أن تكون شيطانة? قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً? مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد...”. ويدور حوار طويل بين هؤلاء البحارة والرجل المصفد بالأغلال يكتشفون فيه أنه هو الأعور الدجال أي المسيح الكذاب. والواقع إنني أربأ بمحمد أن تكون هذه القصة قد صدرت عنه حقاً? لاعتقادي أنها أقرب ما يكون إلى قصص السندباد البحري منها إلى الحديث الصحيح. ولعل تميماً الداري هذا قد وصلته قصة الوحش الطالع من البحر الواردة في سفر الرؤيا? أصحاح 13? مشوهة فرواها كما أوحت له مخيلته. ولكن إن صح هذا الحديث فإنه يكشف أولاً عن اهتمام محمد البالغ في الحصول على تأييد أهل الكتاب لصدق دعوته. وهذا أمر ضروري تتطلبه الظروف الدينية والاجتماعية التي أحاطت بالنبي لإثبات ما يدّعيه من نبوّة ولإضفاء صفة الشرعية عليها. وثانياً? إن شطراً كبيراً من الأحاديث المرويّة تنم عن التأثير العميق الذي تركته القصص الشعبية والأساطير في تأويل الآيات القرآنية وتفسيرها. إن الدراسات المقارنة في الأديان وآدابها تبين بوضوح مدى تأثر القرآن بالكتب الأبوكريفية والأساطير اليهودية - المسيحية. فلا عجب إذاً أن يكون التّشويه قد طرأ على قصة الصلب كما أوردتها كتب التفاسير لأنها اعتمدت هذه الخرافات المنكرة31 . ولكن قبل أن نستوفي البحث في هذا الفصل الأخير أود أن أعلق على آيتين قرآنيتين أعتقد أنهما تلقيان مزيداً من الوضوح على لفظة متوفيك: أما هاتان الآيتان فهما: “مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...” (سورة المائدة 5: 75). “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...” (سورة آل عمران 3: 144). إذا أمعنا النظر في هاتين الآيتين علىأساس علاقتهما بمصير الأنبياء السابقين نجد أن هناك عاملاً مشتركاً بينهم جميعاً: أنهم كلهم ماتوا. وطبقاً للقرآن? فإن المسيح ومحمداً كانا عرضة للموت. فهما لا يختلفان عن بقية الأنبياء والرسل الذين مضوا من قبلهما. ومن العسير على الباحث الافتراض أن القرآن الذي يجمع بين المسيح وسواه من الأنبياء السابقين أن يستثنيه من الموت. فكما أن عيسى ابن مريم ليس سوى رسول خلت من قبله الرسل يماثلهم في كل شيء? فلماذا لا يماثلهم في الموت أيضاً? ومن الواضح أن سياق البحث يتمحور حول الماضي ولا يدور حول حدث مستقبلي? بل إن وجه الشبه يعتمد الماضي وحده. إن المتأمل في هاتين الآيتين لا يجد أي فارق لغوي بينهما. إنهما تشيران إلى المعنى نفسه. وكما مات محمد فإن المسيح مات من قبله أيضاً. وعندما حاول العلماء المسلمون كالجلالين والبيضاوي والرازي تأويل معنى هاتين الآيتين حرصوا جداً على تفادي الإشارة إلى موت الأنبياء القدامى في معرض مقارنة المسيح بهم. صحيح أن القرآن كان يؤنب النصارى الذين ألَّهوا المسيح ومريم? ولكنه في سياق المقارنة بينهما وبين بقية الأنبياء كان يسعى إلى التأكيد على بشريتهما من كل ناحية? وأنهما عرضة للموت. وهذا واضح أيضاً في حالة محمد. إن الدارس للآية 144 من سورة آل عمران يدرك بوضوح أنها تشير إلى معركة أُحد التي كاد النبي أن يُقتل فيها. فمن أغراض هذه الآية إذاً هو الإشارة إلى حقيقة الموت? أي العامل المشترك بين الأنبياء جميعاً بل البشر كلهم. خاتمة هذه ليست سوى دراسة سريعة تعرضت فيها لموضوع شائك ولكنّه ذو أهمية كبرى في إيماننا المسيحي. فبينما لا يوجد أي نص أو دليل تاريخي أو أية وثيقة تؤيد ما ورد في القرآن من نفي لموت المسيح وصلبه? يتوافر لدينا? نحن المسيحيين? ثروة طائلة من النصوص والوثائق الأصلية ما يثبت صحة ما جاء في العهد الجديد? ورسائل الحواريين التي كتبت بوحي إلهي? وإرشاد الروح القدس? عن موت المسيح وآلامه وقيامته. لهذا? نحن كمسيحيين? نرفض كل نص مخالف لما جاء في الكتاب المقدس في متون كتب الأديان الأخرى? ولا نعبأ بما يقوله أصحاب البدع وأهل الأهواء والنحل من زنادقة المسيحية. فإيماننا مبنيٌّ على ما نزل به الوحي الإلهي لأن كل الكتاب موحى به من الله. وكل ما يخالف كتاب الله مرفوض من أساسه أصلاً وفصلاً. * * * فإلى كل من اتَّفق في ما أوردناه في كتابنا هذا نقول: “لقد ظهرت لكم حقيقة الخلاص? وعلمتم سيادة الخطية على البشر? وتأكدتم أن سيدنا المسيح هو فادي الخطاة إلا أن ذلك ليس كل المطلوب? بل بقي شيء آخر أساسي? هو الشعور بضرورة تخصيص هذا العمل الخلاصي العمومي ليكون شخصياً لكل فردٍ منكم. نعم إن الإيمان بالمسيح ومعرفة شخصه ووظائفه والاعتراف بكل ذلك واجب? ولكن يعوزكم شيء آخر وهو أن تكون لكم شركة عملية مع المسيح واتحاد حقيقي به? بحيث تحيون بحياته وتتحركون بقوته? فتُظهرون سمو شخصه في معيشتكم? وقداسة شرعه في تصرفكم? وطهارة إنجيله في معاملتكم? وسلطة روحه القدوس وقدرته في أخلاقكم. تعترفون وتعتمدون باسم المسيح - فهل امتلأتم من روح ألوهيته وتعليمه? وباسم المسيح الكاهن - فهل استفدتم من ذبيحته الكفارية? وباسم المسيح الملك - فهل أنتم من جنوده المدافعين عن مسيحيته? إن المسيحية يا قوم لا تقوم بحفظ آيات الإنجيل ولا بترتيلها بكرة وأصيلاً? بل تقوم بالانتصار على عاداتنا وأهوائنا وتغييرها بما هو حسن ونافع”.
| |
|
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| موضوع: رد: حقيقة الصلب بين المسيحية والاسلام .. دراسة وثائقية مقارنة الأحد أبريل 01, 2012 6:58 am | |
|
المراجع 1 راجع كتاب: Salvation Through Repentance, by Abu Ameenah Bilal (Philips, Pub. by. Tawheed Publications, Riyadh, Saudi Arabia) 2 تأليف أبو فاضل? منشورات النور? كولورادو سبرنجز? كولورادو 3 CP. 344, 2nd Revised ed. Pub, William Morrow and co. NY, 1981 4 لمزيد من المعلومات راجع كتاب: "الصليب في الإنجيل والقرآن" لاسكندر جديد? منشورات دار الهداية? ريكون? سويسرا 5 راجع كتاب: "من دحرج الحجر?" تأليف فرانك موريسون? نداء الرجاء? شتوتغارت? ألمانيا 6 راجع كتاب: "التفسير الكبير" للفخر الرازي? المجلد 11 صفحة 102 منشورات دار الفكر? بيروت? لبنان? سنة 1981? وكذلك انظر تفسير كل من الجلالين والبيضاوي للآية أدناه. 7 التفسير الكبير? المجلد 8? صفحة 77 - 79 8 راجع كتاب: "قضية الغفران في المسيحية" لعوض سمعان صفحة 91 و92 وقد عمد عوض سمعان إلى اقتباس معلوماته من كتاب: "المنارة التاريخية في المسيحية والوثنية" للأستاذ إسكندر صيفي? صفحة 103? 154? 189? 197? 201. ومن المراجع القيمة التي تبحث في هذا الموضوع: The Crucifixion and Docetic Christology by Edwin Yamauchi, pub. in Concordia Theological Quarterly 46, 1982 راجع كتاب "الصليب في الإنجيل والقرآن"? الفصل الثاني 10 أنظر Who was Who in the Church History, by Eglin S. Moyer, p. 175, pub. by Moody Press, Chicago Il. 1962 11 تأليف الأستاذ زكريا بن عبد الله بن جبرائيل بن داوود? صفحة 55-56? الطبعة الثالثة? منشورات النفير? بيروت ? لبنان 12 راجع كتابي: "لزوم كفارة المسيح" و"كيف تنتفع بكفارة المسيح"? لعوض سمعان? مطبوعات نداء الرجاء? شتوتغارت? ألمانيا 13 أنظر كتاب: "الخطية والكفارة في الإسلام والمسيحية"? لعبد الفادي? مطبوعات دار الهداية? ريكون? سويسرا 14 راجع المصدر السابق صفحة 189 15 "قضية الصليب" للدكتور لبيب ميخائيل? ولا سيما الصفحات 59 -95? وهو في رأيي خير ما كتب في هذا الموضوع الهام باللغة العربية. أنظر أيضا كتاب: "الصليب في الإنجيل والقرآن" صفحة 23-29 الطبعة الأولى. كذلك يمكن الرجوع الى كتاب: "ثقتي في السيد المسيح" لجوش مكدويل? نداء الرجاء. وكذلك كتاب: "مرشد الطالبين إلى الكتاب الثمين" صفحة 354-377? الطبعة السابعة? مطبوعات المطبعة الأميركية? بيروت 1937? وكتاب أ.م.هودجكن "المسيح في جميع الكتب"? طبعة بيروت المنقحة? لا تاريخ? وكتاب: Meldau, Fred John: Messiah in Both Testaments, 5th print, The Christian Victory publisCo. 1967, Denver, Co 16 انظر كتاب: "الصليب في الإنجيل والقرآن" صفحة 21-22? الطبعة الأولى 1 راجع كتاب The Verdict of History, by Gary R. Habermas, pub. by Thomas Nelson Publication, Nashville, Tn, 1982, pp. 87-88 2 المصدر السابق 93 -94 3 انظر أيضا كتاب "كيف تنتفع بكفارة المسيح?" صفحة 17 4 وهذه المعلومات مقتبسة من كتاب: "كيف تنتفع بكفارة المسيح?" صفحة 17. وكذلك نوّه ابن الأثير (1160 - 1232م) في تاريخه الكامل? ج 1 ص 319 منشورات دار صادر? دار بيروت? 1965 نقلاً عن الرواة والمحدّثين. 5 The Verdict of History, p. 100 6 المرجع السابق 7 المرجع السابق 8 المصدر السابق: 91 - 92 هذه الترجمة مأخوذة عن النص الإنكليزي لعدم توافر النص العربي الأصلي لديّ 9 راجع: Funk and Wagnalls New Encyclopedia. vol. 25, p. 111 pub. by Funk and Wagnalls 10 راجع كتاب: "الصليب في الإنجيل والقرآن" 36? وأيضاً Sahedrin 43a, p. 281 11 The Verdict of History 12 "قضية الغفران" ص 108? وكتاب "مباحث المجتهدين" لنقولا يعقوب غبريل, الطبعة السادسة? ص 76 13 The Verdict of History, p. 103 14 p. 6, trans. By Marvin W. Meyer, Pub. by Random House, 1984 15 راجع كتاب: The Historical and The Verdict of History, 5pp. 141-150, Reliability of the Gospels, by Craig Blomberg, pub. by Inter-Varsity Press, 1987, pp. 201-218 1 التفسير الكبير? الرازي? ج 8 ص 74 2 Christ in Islam and Christianity, by Robinson, Neal, Chapters 2 no. 12, pub. by State University of New York, Albany, 1991 3 "مباحث المجتهدين" ص 70 4 راجع أيضاً ج4? رقم 4349 و4463 5 كتاب "رياض الصالحين" للإمام النووي? جزء 1 حديث رقم 40 و586? وانظر أيضاً عن لفظة "توفي" في رقم 687 6 "رياض الصالحين" ج 2? حديث رقم 910 7 "رسائل إخوان الصفاء" ج 4? ص 116? طبعة بمباي 1306 هجرية 8 "قصص الأنبياء" للثعلبي? مطبوعات دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه? 2 360 - 361 9 "طبقات ابن سعد" 5:543? طبعة بيروت 1957 م 10 "الكامل في التاريخ"? ابن الأثير? ج1: 320 11 راجع كتاب: Sharing your Faith With a Muslim, by Abdiyah Akbar Abdul-Haqq, pub. by Betany House Publishers, 1980, chapter II 12 "رياض الصالحين" ج 1? رقم 36 13 مترجمة عن النص الإنكليزي المنشور في Muslim World, XXXIV, pp. 214f. كما اقتبسها Geoffery Parrinder في كتابه: Jesus in the Quran, pp. 115-116, pub. by Sheldon Press, London, 1965 14 المصدر السابق 105 15 Abd Al-Tafahum. The Quran and the Communion: p. 242ff, pub. in The Muslim World, 1959, as quoted by Parrinder: 106 16 pp. 113 - 114 17 راجع كتاب: That one face, by L.R. Bernard, Mid- American Baptist Seminary, 1980 18 صحيح البخاري 6:25 19 كتاب الإسرائيليات لرمزي نعناعه? ص 86 وما يلي? منشورات دار القلم ودار الضياء? بيروت - دمسق? 1970 20 ابن حنبل? المسند? ج 6? ص 23 - 24? تحقيق أحمد شاكر? منشورات دار المعارف? مصر? 1948 21 سيرة ابن هشام? ج1? ص 223? تحقيق محمد السقا وزملائه? منشورات دار الكتب العلمية? بيروت 22 المصدر السابق 176 23 كتاب قس ونبي 24 صحيح مسلم? ج1: 77 - 78 25 قس ونبي: 71 وما يتبع 26 المصدر السابق: الفصل الخامس 27 الإسرائيليات 86 28 3: رقم 3274 29 تذكرة الحفاظ: 27? ج1? طبع في الهند 30 ج 18? ص: 80 وما يتبع 31 راجع كتاب مصادر الإسلام
| |
|
Admin المدير العام
عدد المساهمات : 6518 نقاط : 9829 تاريخ التسجيل : 16/11/2010 العمر : 66
| موضوع: رد: حقيقة الصلب بين المسيحية والاسلام .. دراسة وثائقية مقارنة الأحد أبريل 01, 2012 7:06 am | |
| | |
|